براءة الطرن – الأيام
لكل حاسة من حواسي الخمس ركن تشغله في الذاكرة، ارتباط الأشياء هناك مريب، ومضحك في آن واحد، رائحة الزعتر مثلاً تربط لي فولاراً مدرسياً، تشده على عنقي بجوزة ضائعة، لون الجوزة البرتقالي حيناً والبني أحياناً يفتح باب منزلنا القديم، أدخل إلى غرفة الجلوس، أحفظ تلك الأريكة، هي سريري أيضاً، تركت خدشاً على يدها الخشبية بمسمار ما في ليلة ما، عانيت حينها من الأرق، القلق، ورهاب العتم، العتم المرتبط بالمذياع المنسي، أشغله ليشغلني عن عدّ الساعات المتبقية لطلوع الفجر، ونعاسي المرتقب، الليل لأم كلثوم دائماً، لصوتها هيبة تتطلب مني خشوعاً لا أفهمه وأنا ابنة تسع سنوات، لكن لا خيارات، والضعيف هو من لا خيارات لديه.
حفظت جملة واحدة رغم التكرار، وأمل القدامى بتعليمه للشطار أو الحمار، “أهل الحب صحيح مساكين” لا طباق ولا جناس في الجملة، بسيطة كبساطة عقلي، سهلة الفهم والإدراك.
من هم المساكين إذاً، بائع الحليب الذي وقع منه الدلو، مسكين كما وصفته جارتنا صفاء، جارتنا صفاء مسكينة لأنها لم تحمل بعد، هكذا وصفتها داليا، داليا مسكينة أيضاً لأنها تسكن مع أهل زوجها، أهل زوجها مساكين لا موسم لديهم هذا العام، هكذا قال البقال، البقال يتمسكن ليس مسكيناً، هكذا قالت أمي، أمي مسكينة تأخذ دور الأب والأم لغياب أبي المتكرر وعمله الطويل، هكذا قالت عمتي، عمتي مسكينة لأنها لم تتزوج بعد، هكذا قالت زوجة عمي…
ارتبطت كلمة المسكين لدي بكل من ينقصه شيء ما لا قدرة له على تداركه، بالنقصان، الفقدان، الانتظار، السقوط، والحب حتماً، كبرت وأنا “طول عمري بخاف من الحب، وسيرة الحب، وظلم الحب لكل أصحابه” أضبط نفسي أمامه، فلتت مني زمام الأمور مرة واحدة، ثم انضبطت مع إنذار، أطلق لنفسي العنان أمام جوع منتصف الليل فقط، سندويشة الزعتر تعيد الشريط المشوش المشوه، يزيد الشاي من سخونته، تلتهب ذاكرتي، وتحترق آخر الفيوزات المراهن على بقائها.
الأيام